وفي وقت كانت أنظار العالم متجهة إلى دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد، الذي صاحبته عبارات الابتهاج بين السوريين، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي منشغلاً بما هو أهم. وأمر الجيش الإسرائيلي بالتقدم والسيطرة على المناطق العازلة وجبل الشيخ، فيما عملت الطائرات الحربية الإسرائيلية على تدمير مواقع الأسلحة الكيماوية ومنشآت تخزين الصواريخ الباليستية والبعيدة المدى، أو بشكل أكثر تحديدا، إزالة “المسامير” العسكرية. أمام أن يستيقظ السوريون من جنون إسقاط نظام الأسد.

لا شك أن السقوط الكبير لنظام الأسد كان بمثابة صدمة كبيرة، وأثار العديد من التساؤلات حول «أسرار» هذا الانهيار السريع. تخلت وحدات الجيش السوري عن القتال، حتى تلك المعروفة بولائها الشديد للنظام وقدرتها القتالية، مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة تحت قيادة ماهر الأسد. علاوة على ذلك، وعلى عكس سلوكهم الشرس مع بداية الثورة عام 2011، فإن القاعدة الشعبية التي من المفترض أن تكون بمثابة أرض خصبة للنظام (أي الطائفة العلوية) لم تواجه ولم تقاوم الجماعات المسلحة، وأظهرت علامات المفاجأة من ذلك. الفجوة الواسعة التي كانت قائمة بين البنية المهيمنة من الأعلى والبيئة القائمة على النظام القائم. ولا شك أن الأوضاع الاقتصادية المزرية والحديث عن الفساد أدى إلى تفكك الطبقة التي كان من المفترض أن تكون درع السلطة القائمة، وبالتالي عزوفها عن الاستجابة لنداءات الدعم والمساعدة.

لكن هناك نقطة أخرى، لا تقل أهمية، ساهمت في بقاء النظام معزولاً. وكانت المجموعات المهاجمة مدعومة من متطرفين من جبهة النصرة. وهناك مواجهات عديدة وبرك من الدماء بين “النصرة” والبيئة الموالية لها، والتي يقال إنها ستحافظ على حالة العداء حتى لو غيرت “النصرة” اسمها إلى “هيئة التحرير”. «الشام»، وحتى مع إعلان أبو محمد الجولاني رحيله عن «القاعدة»، فإنه يدخل إلى واقع أكثر واقعية بعودته إلى اسمه الأصلي، أحمد الشرع. لأن أتباعه ومقاتليه احتفظوا بالهوية نفسها، وهو ما انعكس على الأقل في مظهرهم. وربما يكون الانضباط الذي يمارسه هؤلاء الأشخاص من حلب قد قلل من مستوى الرفض. لكن هناك سبباً أكثر إلحاحاً أدى إلى تضييق المسافة بين الشارع السوري والجماعات المهاجمة، وهو كراهيتهم للجماعات المرتبطة بإيران. ومن الواضح أن هذه الكراهية لم تكن محسوسة على المستوى السني فحسب، بل حتى على مستوى الشارع العلوي.

مع انطلاق العملية العسكرية في 27 الشهر الماضي، أي غداة إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، وبعد تخطيط طويل من قبل أنقرة وبدعم من واشنطن، ومع موسكو في الأجواء والتفاصيل الدقيقة التي تلت ذلك من تل أبيب، انطلقت الحملة العسكرية بهدف واضح هو إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا. ولذلك كانت نقطة البداية هي اغتيال الجنرال الإيراني، وتم تحديد الهدف بوضوح من خلال دخول مبنى القنصلية الإيرانية في حلب. وجاء اختتام الحملة العسكرية مع دخول السفارة الإيرانية في دمشق، بعد تمزيق صورة قاسم سليماني، مهندس “محور المقاومة” ومبدأ “وحدة الساحات”، إلى جانب صورة السيد حسن نصر الله الذي تولى فعلياً مهمة قائد المحور في المرحلة السابقة.

لكن إسقاط نظام الأسد له أهداف أخرى لا تقل أهمية. إن النظام الذي كانت إسرائيل في السابق تسعى جاهدة لمنع سقوطه، أدرك الآن أن الوقت قد حان لاتخاذ مسار مختلف يضمن “تغيير وجه المنطقة”. وأصبحت المنطقة الممتدة من حلب مروراً بإدلب وحماة وحمص، منطقة للنفوذ التركي. المنطقة المقابلة للشرق أصبحت تحت نفوذ الأكراد. وأصبح الشريط الساحلي الذي توجد به القواعد العسكرية الروسية تحت إشراف موسكو. أما المنطقة الجنوبية فهي مقسمة بين الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر ومناطق أخرى مثل السويداء ودرعا الخاضعة للنفوذ الإسرائيلي. وستكون العاصمة دمشق نقطة التقاء لهذا المزيج المعقد. لذلك، على دمشق أن ترحب بتشكيل هيئة حكم مؤقتة تتولى كتابة دستور جديد ومن ثم تنظيم انتخابات شعبية، مع احترام مبدأ المشاركة المعمول به في الساحة السورية.

وغني عن القول أن إيران كانت الخاسر الأكبر ولم تحصل على أي تعويض عن الاستثمارات الضخمة التي قامت بها في سوريا. لكن بالنسبة للجانب “الفائز” فإن الصورة ليست وردية. وعلى العناصر المتطرفة التي قاتلت تحت راية الجولاني ألا تتردد في تأكيد وجودها. صحيح أن أحمد الشرع والدول الداعمة له سيعملون على تطهير صفوف المقاتلين، لكن ذلك لن يمنع من اندلاع مواجهات أمنية متنقلة. كذلك قد تكون هناك مواجهات بين هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى منخرطة في القتال وتسعى للحصول على حصة من قطعة الحلوى. وستكون المواجهة الأكثر أهمية والوشيكة بين الجماعات المرتبطة بتركيا والأكراد، الذين سيطروا على منطقة واسعة ويتمتعون بدعم أميركي. وقبل سقوطه، سلم الأسد بعض مواقعه شرقي سوريا لقوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى مطار يضم طائرات مقاتلة هي الأفضل في سلاح الجو السوري.

إيران التي تلقت الضربة الثالثة في المنطقة بعد غزة ولبنان، ستجد بلا شك أنه أصبح من الصعب للغاية استعادة اللعبة التي أتقنتها من خلال الرهان على الوقت المناسب لترميم ما تم تدميره لإعادة بناء لبنان “في صمت” و دون إحداث ضجة أصبح أمرا صعبا للغاية بعد انسحابها من سوريا. والحقيقة أن المنطق يفرض ضرورة الاهتمام بالموقع في العراق، لأنه يفترض أنه المحطة الرابعة. وذلك لأن حزب الله، قبل سقوط دمشق، كان قد بدأ بصياغة استراتيجية «العودة»، وهو ما يبدو واضحاً من كلام أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، أن الاتفاق طال جنوب الليطاني فقط. وبدأت طهران بضخ بعض الأموال إلى شرايين حزب الله، إضافة إلى البحث عن طريقة لاستعادة البنية العسكرية للحزب، سواء من خلال تأمين ممرات للتهريب وتخزين الأسلحة أو من خلال إنتاج بعض الأسلحة إذا لزم الأمر، وكانت تجربة غزة في هذا المجال مشجعة. من هنا يمكنك أن تفهم لماذا أرسل حزب الله بهذه السرعة 2000 مقاتل إلى القصير، حيث يسيطر حزب الله على الممر البري إلى لبنان وحيث يفترض أن هناك مستودعات ومصانع للصواريخ. وتوقع كثيرون أن يدافع حزب الله عن هذه المنطقة. لكن سقوط النظام برمته ربما غيّر هذا الاتجاه، خاصة أن تكاليف هذه المعركة ستكون باهظة والأهداف المرجوة لا يمكن تحقيقها بسبب التغيرات التي تشهدها دمشق.

وسيصل هذا الأسبوع مسؤولون أميركيون متخصصون إلى السفارة الأميركية لدعم عمل لجنة المراقبة الخماسية. تجدر الإشارة هنا إلى أن التجربة الصعبة لقرار وقف إطلاق النار الهش في جنوب لبنان مرت واجتازت اختبارات صعبة، مما يوحي بأنه سيكون دائما.

كما يستعد السفير الأميركي الذي سيزور الرئيس نبيه بري مع سفراء الخماسي وبناء على طلبهم، لمغادرة لبنان مبكراً لقضاء الإجازة الطويلة.

ولا يبدو أن جلسة انتخاب رئيس في التاسع من الشهر المقبل ستخرج بأي نتيجة إذ يرغب الطرفان الأميركي والإيراني في تأجيلها. وتريد واشنطن الانتظار حتى تعرف الحقائق الجديدة في المنطقة، ما يجعل حل «لغز» الرئاسة واستئناف عجلة الدولة أسهل وأوضح. وترى طهران من جهتها أنها تريد مراكمة أوراق القوة بين يديها بعد أن احترق الكثير من أوراقها العام الماضي. وبالتالي فإن الرئاسة اللبنانية والإفراج عن أسرى الدولة سيكونان ورقة قوية في أيديهما لوضعها على طاولة المفاوضات، والتي من المرجح أن يأتي وقتها بعد دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتناول ملف النفوذ الإيراني في العراق. قلقان. وأشير هنا إلى إشارة ترامب إلى ضرورة إغلاق ملف الأسرى في غزة قبل دخوله البيت الأبيض، فهو لم يترك ورقة التفاوض في يد طهران.

في الأيام الأخيرة، نشرت مجلة فورين أفيرز مقالاً لافتاً، بل واستفزازياً، لنائب الرئيس الإيراني محمد جواد ظريف، والذي لفت انتباه الدوائر الأميركية ذات الصلة. وشدد ظريف في خطابه على ضرورة أن تكون طهران منفتحة على الحوار مع العواصم الغربية بقيادة واشنطن، حتى على أساس “مفاوضات متكافئة” بشأن القضية النووية. لكن تصريح ظريف سلط الضوء على أهمية التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة، وأشار مرارا إلى أن بلاده تسعى دائما إلى السلام، واثقة من قدراتها الدفاعية.

أهمية ما كتبه ظريف لا تكمن في محتواه فحسب، بل قبل كل شيء في توقيته، خاصة وأن ترامب كان يتحدث دائما عن إيمانه بإنهاء الحروب في الشرق الأوسط، وتطرق في بداية ولايته الثانية إلى مسألة إنهاء الحروب في الشرق الأوسط. قضية إيران للتعامل معها.