إن التأثير على الزراعة والأمن الغذائي في لبنان مثير للقلق، خاصة وأن البلاد تواجه تصعيدًا جديدًا للعنف في الجنوب ومنطقة البقاع. فالقطاع الزراعي، الذي أضعفته بالفعل سنوات من الأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي، أصبح الآن على وشك الانهيار. ويعاني هذا القطاع الحيوي من الإمدادات الغذائية من عدد من العوامل المدمرة، بما في ذلك: انعدام الأمن الذي يمنع الوصول إلى الأراضي الزراعية، وتدهور البنية التحتية وزيادة عدم قدرة المزارعين على الحفاظ على الإنتاج بسبب الأزمة الاقتصادية.

وبشكل عام، يزرع لبنان، الذي كان في السابق مركزاً مزدهراً للإنتاج الزراعي، مجموعة واسعة من المحاصيل التي تندرج تحت خمس فئات رئيسية: الحبوب والفواكه والزيتون والمحاصيل الصناعية (مثل بنجر السكر والتبغ)، وأخيراً الخضار. ومن بين هذه المحاصيل تلعب منطقة البقاع وجنوب لبنان دوراً مهماً. منطقة البقاع، التي تمثل 42% من إجمالي المساحة المزروعة في البلاد، هي مخزن الحبوب الزراعي الرئيسي في لبنان. بالإضافة إلى ذلك، فهي تغطي 62% من إجمالي المساحة المستخدمة للمحاصيل الصناعية و57% من إجمالي المساحة المستخدمة لإنتاج الحبوب، مما يجعلها محورًا أساسيًا للأمن الغذائي الوطني.

على الرغم من أن الأراضي الصالحة للزراعة في جنوب لبنان أقل من منطقة البقاع، إلا أنها مهمة لإنتاج الزيتون والفواكه والخضروات. وتمثل بساتين الزيتون على وجه الخصوص مورداً اقتصادياً هاماً للعديد من الأسر في هذه المنطقة.

ومع ذلك، وبسبب تصاعد العنف، أصبح من الصعب الآن الوصول إلى هذه المناطق، مما يمنع حصاد المحاصيل ونقل المنتجات إلى مناطق أخرى، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الغذائية المستمرة بالفعل.

وبالنظر إلى المشهد الزراعي اللبناني على مدى العقد الماضي، واجهت الزراعة اللبنانية سلسلة من الأزمات التي قوضت قدرتها على إطعام السكان. وأدت الحرب الأهلية السورية، التي بدأت في عام 2011، إلى تدفق أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري ووضعت ضغوطا هائلة على الطلب على الغذاء. وأمام هذه الضغوط، اتجه العديد من اللبنانيين إلى الزراعة، خاصة في منطقة البقاع، حيث استثمروا في الدفيئات الزراعية لزراعة الخضار والبطاطس.

وقد أتاحت هذه الزيادة في إنتاج الدفيئات الزراعية إمكانية الزراعة المكثفة لتلبية هذا الطلب المتزايد. وقد فتح هذا فرصًا إضافية للدخل ومكّن من قبول العمال اللاجئين السوريين. وعلى الرغم من الافتقار إلى التخطيط طويل المدى والرؤية السياسية الواضحة، فقد أظهر القطاع الزراعي في لبنان مرونته، ولو “بتردد”.

ثم تعرض الإنتاج الزراعي، مثله مثل الاستثمارات الأخرى في البلاد، لضربة قاتلة. أدت الأزمة الاقتصادية وانهيار القطاع المصرفي اللبناني إلى تغيير جذري في الوضع.

منذ منتصف التسعينيات، اعتمدت الزراعة اللبنانية بشكل كبير على استيراد السلع الزراعية مثل البذور والأسمدة والمبيدات الحشرية وأنظمة الري. وسمح هذا النموذج للمزارعين بتمويله من خلال سياسة الدعم النقدي القائمة على ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بخطوط الائتمان المصرفية.

لكن انهيار القطاع المصرفي عام 2019 أدى إلى انهيار هذا النموذج. ومع عدم قدرة موردي المدخلات الزراعية على الحصول على الائتمان وارتفاع أسعار البذور والأسمدة بسبب انهيار العملة، أصبح المزارعون الآن غير قادرين على تمويل احتياجاتهم الأساسية.

ولذلك، فإن هذا الخلل المالي يهدد الإنتاج الزراعي المحلي ويزيد من اعتماد لبنان على الواردات الغذائية في وقت أصبحت فيه العملات الأجنبية شحيحة بشكل متزايد.

وبشكل عام، تمكن القطاع الزراعي “بتردد” من التخفيف من الأثر الأولي للأزمة المالية، إذ عوض ارتفاع الأسعار جزئياً ارتفاع تكاليف الإنتاج في القطاع.

وبالعودة إلى حرب اليوم، يشهد لبنان حالياً فترة من التوتر العسكري في الجنوب والبقاع، المنطقتين الزراعيتين الاستراتيجيتين في البلاد. كان للحرب تأثير مدمر ليس فقط على البنية التحتية، ولكن أيضًا على الإنتاج الزراعي وسبل عيش المزارعين والأمن الغذائي في البلاد. ويؤدي الوضع الحالي إلى تعطيل الدورة الزراعية بشكل كبير في هذه المناطق، خاصة حيث يتم زراعة نسبة كبيرة من المحاصيل الزراعية.

ولم يعد المزارعون قادرين على الوصول إلى أراضيهم لجني محاصيلهم، كما أن انعدام الأمن على نطاق واسع في هذه المناطق يجعل من الصعب نقل المنتجات الزراعية إلى الأسواق. وكثيراً ما تكون الطرق مغلقة والعديد من الحقول، رغم أنها لم تدمر بشكل مباشر بسبب القتال، إلا أنها في حالة سيئة بسبب نقص العمالة اللازمة لزراعتها. وبالإضافة إلى ذلك، يعاني جنوب لبنان، أكبر منتج للزيتون في البلاد، من تدمير بنيته التحتية، مما يجعل من المستحيل تصدير الزيتون والزيت إلى مناطق أخرى أو إلى الخارج.

أما عن مؤامرة الحكومة، فنجد أن استراتيجياتها غير كافية إلى حد كبير في مواجهة هذه الأزمة المتعددة العوامل. إنهم يميلون إلى تطوير استراتيجيات تستهدف الجهات المانحة التي تختار في نهاية المطاف الخيارات التي تريد تمويلها.

ومع ذلك، يحتاج القطاع الزراعي في لبنان إلى استراتيجية متماسكة للإصلاحات التشريعية والمؤسسية على المستوى الوطني على نطاق مماثل لتلك التي اتبعتها حكومة الرئيس فؤاد شهاب في الستينيات.

وعلى الرغم من أن وزارة الزراعة سبق أن وضعت خطة خمسية تتضمن ركيزة مخصصة للأمن الغذائي لأول مرة، إلا أنها لا تزال تفتقر إلى التمويل وتعتمد بشكل كبير على الجهات المانحة الدولية. يحتاج القطاع الزراعي في لبنان إلى إصلاحات هيكلية طويلة الأمد تتجاوز الحلول المؤقتة أو الاستراتيجيات التي يقودها المانحون.

يجد المزارعون، الذين يشكلون نسبة كبيرة من سكان الريف اللبناني، أنفسهم عالقين بين حكومة فاشلة وحالة حرب لا تظهر أي علامات على التراجع.

إن الافتقار إلى الدعم المؤسسي المستدام لا يهدد الإنتاج الزراعي فحسب، بل يهدد أيضًا بقاء المجتمعات الريفية التي تعتمد سبل عيشها على هذا النشاط.

ولذلك، أصبح مستقبل الزراعة في لبنان الآن أكثر غموضا من ذي قبل، وقد تكون العواقب وخيمة على الأمن الغذائي والأسواق الزراعية. وتسببت الصعوبات في نقل المنتجات الزراعية إلى المناطق النائية والمراكز الحضرية في اضطراب كبير في الأسواق المحلية. ارتفعت أسعار المنتجات الزراعية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى نقص المنتجات، ولكن أيضًا بسبب الزيادة الكبيرة في تكاليف النقل الناتجة عن الحرب وزيادة خطر تعرض المزارعين لعواقب مدمرة.

إن فقدان المحاصيل، والأهم من ذلك، سلامة المحاصيل المحصودة بعد تعرضها للمواد السامة بسبب كثافة الضربات العسكرية أو عدم القدرة على إيصال المنتجات إلى الأسواق، يشكل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي في البلاد. وتزرع معظمها في منطقة البقاع، وهي ذات أهمية حاسمة لإمدادات لبنان الغذائية. وبالتالي، فإن تعطل الإنتاج والنقل يهدد الاستقرار الغذائي، خاصة في بلد يعاني بالفعل من أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة.

باختصار، القطاع الزراعي في لبنان، الذي اعتُبر منذ فترة طويلة شريان حياة للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، يمر الآن “بتصلب كبير”. وأدت الحرب في كافة أنحاء لبنان، وكذلك الأزمة الاقتصادية وانهيار المؤسسات المالية، إلى تدهور ملحوظ في القطاع الذي أثبت قدرته على التكيف في الأوقات الصعبة.

وما لم يتم اتخاذ إجراءات سريعة لدعم المزارعين، وضمان الوصول إلى المدخلات وإصلاح السياسات الزراعية بشكل شامل، فقد يواجه لبنان أزمة غذائية أكثر خطورة ذات عواقب كارثية على جميع سكانه، “ونحن لم نفتقر بعد”.

وعلى النحو الموصى به خلال أزمة لبنان، استجابت الطبقة السياسية وجزء من المجتمع المدني للأزمة من خلال “تمجيد” الزراعة، والعودة إلى الريف، وإلقاء العبء على المواطنين لضمان أمنهم الغذائي. إن نموذج الاكتفاء الذاتي هذا ليس غير واقعي فحسب، بل هو ضار أيضا، وهو شكل من أشكال الجنون لأنه يزيل المسؤولية عن الدولة.

واليوم نرى أن لبنان معرض لخطر انزلاق جزء مهم آخر من السكان إلى الفقر المدقع، بينما يخسر في الوقت نفسه جزءا من البلد الذي أثبت قدرته على توفير فرص العمل وتعزيز السلم المدني للمساهمة. أم أن المشهد الحالي سيصبح «أخضر وجاف» ويقطع «الوريد الزراعي» وهو يرقد في العناية المركزة منتظراً من ينقذه بعد أن أنقذ الوضع مراراً وتكراراً بالتأقلم والتعافي؟