في قلب مدينة النبطية الهادئة في جنوب لبنان، كان سوق النبطية رمزا للتجارة والتراث، مجسدا أكثر من قرن من التاريخ. تأسس السوق عام 1910 في عهد الإمبراطورية العثمانية، وكان أكثر من مجرد مكان لبيع وشراء البضائع؛ بل كانت مكانًا للقاء الأجيال، وربط الماضي بالحاضر، ومكانًا تجتمع فيه الثقافات والأجناس معًا. لكن في ليلة 12 أكتوبر 2024، تعرض السوق لأضرار جسيمة جراء الغارات الجوية الإسرائيلية، مما أدى إلى خسارة فادحة لم تقتصر على المباني والمنتجات فحسب، بل امتدت إلى أعماق الهوية الثقافية اللبنانية.
سوق النبطية: تراث حي ووحدة اجتماعية
وكان السوق الشعبي في النبطية ملتقى للمزارعين والحرفيين والتجار من مختلف المناطق اللبنانية مثل صيدا وصور وجزين. وفي كل يوم اثنين، كان السوق يعج بالنشاط حيث كان سكان الجنوب يتجمعون لشراء وبيع المنتجات الزراعية والحرف اليدوية وغيرها من السلع الضرورية. وكان السوق جزءاً لا يتجزأ من الهوية الاجتماعية والثقافية للمدينة وأهلها، حيث كان يعكس البساطة والروح المجتمعية.
وما يميز هذا السوق ليس نشاطه التجاري فحسب، بل جماله المعماري أيضًا. وتشهد المباني القديمة بواجهاتها ذات الطراز العثماني على تاريخ طويل من الصمود والتطور. الشوارع المتعرجة والمحلات التجارية الصغيرة أعطت للسوق طابعا خاصا وجعلته مكانا يجتمع فيه الناس ويتبادلون القصص والأخبار ويتشاركون اللحظات معا.
الضربة المدمرة
في تلك الليلة المشؤومة من يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول، دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية جزءًا كبيرًا من سوق النبطية. وتعرض السوق لأضرار بالغة، واشتعلت النيران في اثني عشر مبنى سكنيا و40 متجرا. وأسفرت الغارات عن مقتل شخص وإصابة أربعة آخرين بينما كان الدفاع المدني اللبناني يكافح لإخماد الحرائق. وبدوره، بذل الصليب الأحمر اللبناني جهوداً هائلة للبحث عن ناجين بين الأنقاض.
ولم يقتصر الضرر الذي أصاب السوق على المباني والشركات فحسب؛ ودمرت العديد من المعالم التاريخية الأخرى في المنطقة، مثل الخان العثماني القديم وأقدم فندق في المدينة، والذي كان يستضيف المسافرين والتجار على مدى عقود. وكان السوق ملاذاً آمناً للنازحين من مناطق أخرى في جنوب لبنان، مما زاد من تأثير الكارثة الإنسانية على السكان.
انتهاك للقانون الدولي والهوية الثقافية
أثار تدمير سوق النبطية الغضب ليس فقط بسبب فقدان معلم تاريخي، ولكن أيضًا لأنه يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. ووفقا لاتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في النزاعات المسلحة، فإن مهاجمة الممتلكات الثقافية والمواقع المدنية يعد جريمة حرب. ولم يكن السوق بأي حال من الأحوال هدفاً عسكرياً، ومع ذلك فقد تم تدميره، مما يعكس تجاهلاً واضحاً للقانون الدولي وحقوق الشعب اللبناني في الحفاظ على تراثه.
وكتبت الكاتبة اللبنانية بديعة فحص تعليقا مؤثرا على ما حدث: “احترقت قلوبنا، ولم يكن مجرد متر من الخرسانة”. هذه الكلمات تعبر بعمق عن الألم الذي يشعر به أهل النبطية. ولم يكن السوق مجرد مبنى، بل كان رمزا لصمود المدينة وحياتها الاجتماعية والثقافية. الخسارة تمثل جرحًا عميقًا يصعب إصلاحه.
السوق النبطية عبر العصور: معلم تاريخي متجدد
السوق لديه تاريخ طويل من الصمود في وجه التحديات. وتعرضت عام 1978 لهجوم إسرائيلي أثناء الغزو الإسرائيلي، وتكرر الهجوم عام 1982 وفي العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. ومع ذلك، استمر السوق في النمو واحتفظ بجزء كبير من هويته الثقافية والمعمارية.
لكن الغارات الأخيرة في عام 2024 كانت الأكثر تدميرا على الإطلاق، حيث تم تسوية جزء كبير من السوق بالأرض، مما جعل من الصعب إعادة بنائه بنفس الهوية التاريخية.
ويشير المؤرخ علي مزرعاني إلى أن السوق لم يكن مجرد مكان للبيع والشراء، بل كان مركزا اجتماعيا وثقافيا يجمع الناس من مختلف الفئات. وتضم مكتبات ومقاهي ومحلات تجارية يعود تاريخها إلى أكثر من نصف قرن. واستضاف السوق تظاهرات ومسيرات عاشوراء، وكان بمثابة منصة للخطباء لمخاطبة الجماهير من شرفات المباني التاريخية. هذه الذكريات تجعل خسارة السوق ليست مجرد خسارة مادية، بل خسارة لهوية المدينة نفسها.
دعوة لحماية التراث الثقافي
ينبغي أن تكون الخسارة الكبيرة التي لحقت بسوق النبطية بمثابة دعوة للاستيقاظ للعالم أجمع، مما يجعلهم يدركون الحاجة إلى حماية التراث الثقافي أثناء الصراع. لا تمثل الهجمات على مواقع التراث الثقافي انتهاكًا للقانون الدولي فحسب، بل تمثل أيضًا هجومًا على الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية للشعوب. وتمثل هذه الآثار جزءاً من تاريخ الشعب وثقافته، وفقدانها يعني فقدان جزء لا يمكن تعويضه من هذا التراث.
يواجه لبنان اليوم خسارة كبيرة، ليس فقط في الأرواح والممتلكات، بل أيضاً في جزء من تاريخه وثقافته. ويجب اتخاذ إجراءات دولية لحماية التراث الثقافي والمواقع المدنية من مثل هذه الهجمات، ويجب العمل على توثيق هذه المواقع وترميمها كلما أمكن ذلك.
إرث مرن
من أبرز جوانب تاريخ السوق النبطي قدرته على تحمل كافة الصعوبات والتجدد. منذ تأسيسه، كان السوق مركزًا للحياة الاجتماعية والثقافية حيث تجتمع الأجيال لتبادل المنتجات والأفكار. ولم يكن هذا التراث الحي مجرد تجارة، بل كان يعكس ثقافة مدينة بأكملها ويعبر عن قيمها وهويتها.
ومن المعالم التي تم تدميرها محلات تجارية يزيد عمرها عن 100 عام، مثل مكتبة محمود حجازي وحلويات بدر الدين. وكانت هذه المحلات جزءاً من ذاكرة المدينة، حيث نشأت أجيال على طعم الحلويات القديمة ورائحة الكتب التي كان الآباء يشترونها لأبنائهم. ويمثل فقدان هذه المعالم خسارة للتاريخ والذاكرة والأجيال القادمة التي لن تتمكن بعد الآن من الاستفادة من هذا التراث كما كان الحال في الماضي.
التدمير المتعمد
إن تدمير السوق النبطية ليس حادثاً مؤقتاً في سياق الحرب. وبحسب العديد من السكان، يبدو أن السوق قد تم استهدافه بشكل مباشر. ويشير الصحفي كمال جابر، الذي وثق تاريخ المدينة منذ سنوات، إلى أن الدمار كان كبيرا لدرجة أن إعادة بناء السوق بشكله الأصلي كان مستحيلا. وكان السوق رمزا لقدرة المدينة على الصمود وترابط سكانها، والتركيز عليه يعكس الرغبة في محو هذا الإرث.
ولم تستهدف إسرائيل سوق النبطية فحسب، بل استهدفت معالم تاريخية أخرى في جنوب لبنان، مثل شجرة المولى في مدينة مفدون، والتي يبلغ عمرها مئات السنين. هذه الشجرة التي كانت شاهدة على تاريخ المنطقة، تعرضت للقصف عدة مرات لكنها ظلت صامدة. ويعكس هذا التدمير الممنهج للمعالم الثقافية والتاريخية محاولة لمحو هوية الشعب اللبناني وذاكرته التاريخية.
مستقبل السوق النبطية
بعد الدمار الهائل الذي تعرض له سوق النبطية، يتساءل الكثيرون عن مستقبل هذا المعلم التاريخي. هل يستطيع السكان إعادة بنائه؟ هل سيحتفظ السوق بطابعه التاريخي إذا تم استعادته؟ تكتسب هذه الأسئلة أهمية متزايدة في ظل التحديات التي يواجهها لبنان اليوم. هناك حاجة إلى دعم دولي لإعادة بناء السوق النبطية والحفاظ على هويته الثقافية. لأن السوق لم يكن مجرد مكان للتجارة، بل رمزا للهوية اللبنانية وصمود الشعب في وجه كل الصعوبات. ويجب أن تكون إعادة بناء السوق جزءاً من عملية أوسع لحماية التراث الثقافي اللبناني وضمان استمرار هذه الآثار في تقديم شهادة على تاريخ البلاد وشعبها.
وفي نهاية المطاف، فإن تدمير سوق النبطية ليس مجرد خسارة للمكان، بل هو جرح في قلب الثقافة اللبنانية.